ملامح الحداثة في العراق
عدنان حسين أحمد

تعني الحداثة في أبسط تعريفاتها الدعوة إلى التجديد والثورة على القيم التقليدية السائدة، وتحقيق معطيات جديدة غير مسبوقة من قبل في مختلف العلوم والفنون والمعارف الإنسانية. وبما أن موضوع الحداثة واسع ومتشعب ولا يمكن الإحاطة به من جميع جوانبه فقد ارتأينا أن نحصره في بضعة محاور وهي فن العمارة، والأبحاث الأكاديمية المحايدة والرصينة،والأدب، والفن التشكيلي، والموسيقى والغناء آخذين بنظر الاعتبار أن ملامح الحداثة يمكن أن تتواجد في ثيماتٍ وموضوعاتٍ أخر لا مجال لحصرها في هذه المساحة الضيقة.
ولتقصي أوجه الحداثة في العراق ارتأينا أن نبدأ زمنياً بتأسيس الدولة العراقية عام 1921 وأن نختار بغداد بوصفها عاصمة للعراق وواحدة من أهم حواضره الأساسية التي اتخذت طابعاً مدينياً ومدنياً في آنٍ معاً على مدى ستة عقود متصلة غيّرت وجه بغداد بالكامل وبقية المحافظات العراقية. وبما أن أولى ملامح هذا التغيير الحداثي تتجسد في العمارات الشاهقة والأبنية السكنية الحديثة التي لم نألفها من قبل فسوف نُولي هذا الجانب أهمية خاصة تضطرنا لأن نضعه في مقدمة المحاور الخمسة المُشار إليها سلفاً مع الاحتفاظ بأهمية كل محور على حدة.
بعد إعلان الدولة العراقية مباشرة برزت الحاجة إلى التغييرات العمرانية التي استدعت ترك البقعة الجغرافية القديمة لمدينة بغداد والتوسع شمالاً باتجاه العيواضية وجنوباً باتجاه البتاويين كما يذكر المهندس المعمار خالد السلطاني. وقد ساعد على هذا التوسع العمراني اكتشاف النفط واستخراجه عام 1927 ثم تصديره في بداية العقد الثالث من القرن العشرين والإفادة من توظيف عائداته المادية في المشاريع العمرانية الجديدة.
كانت بغداد القديمة مدينة صغيرة متضّامة البيوت متلاصقتها، شوارعها ضيقة، وتفتقر إلى مجمل متطلبات الحداثة العمرانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولكي تقطع صلتها بالماضي وتندغم في الحاضر، وتستشرف المستقبل كان لابد لها أن تستجيب لمعطيات الحداثة التي كانت جديدة عليها آنذاك، بل وصادمة في أغلب الأحيان. وكان على الحكومة العراقية بوصفها دولة حديثة ناشئة أن تسنّ بعض القوانين ذات الطبيعة العمرانية وربما يكون قانون الطرق والأبنية رقم 44 لسنة 1935 هو أهمّ القوانين التي سُنّت وقتذاك والذي جاء بعد أربع سنوات من صدور قانون البلديات الأمر الذي ترك تأثيراً كبيراً على مختلف مراحل العمارة والبناء في العراق كما يشير الدكتور خالد السلطاني الذي اقتبسنا منه غالبية المعلومات المتعلقة بمنجزات المعماريين العشرة التي سترد تباعاً وهي جزء أساسي من جهوده المعرفية الشخصية التي تحظى بعنايتنا وتقديرنا على الدوام ولهذا اقتضى التنويه سلفاً.
وعلى إثر القانونين السابقين شُقت الطرق المستقيمة، وشُيدت الجسور الثابتة التي أعطت مدينة بغداد ملامح حداثية واضحة لم تألفها عين الناظر العراقي من قبل. كما وجدت بعض المشاريع والمباني الحكومية طريقها إلى التنفيذ بشكلٍ متسارع مثل مطار المثنى، وقصر الزهور، وكلية الهندسة، ومباني الإذاعة والتلفزيون. وبدأت الحدائق والمتنزهات والمناطق الخضراء بالظهور في غالبية الأحياء الجديدة لمدينة بغداد وارتفعت بعض النصب والتماثيل في جانبي الكرخ والرصافة لترتدي المدينة في نهاية المطاف حُلة جديدة يعود الفضل فيها للمهندسيين المعماريين أولاً والنحاتين ثانياً مع الأخذ بنظر الاعتبار التداخل الشديد بين فني العمارة والنحت اللذين يتسيدان الفنون السبعة المتعارف عليها.
المعماريون العراقيون
تقترن العمارة الحديثة في العراق باسمي المهندسين المعماريين محمد مكية ورفعت الجادرجي اللذين نالا من الشهرة الإعلامية ما لم ينله أي مهندس معماري في العراق لأسباب سياسية وثقافية ولكن واقع الحال يشير إلى وجود أسماء معمارية كبيرة لا تقل أهمية عن مكية والجادرجي لكنها لم تحظَ بالشهرة الإعلامية المطلوبة أو لم تسعَ إليها أصلاً. ولسنا هنا أصلاً في موضع المفاضلة بين المعماريين العراقيين. وبغية تسليط الضوء على العمارة الحديثة في العراق لابد لنا أن نتوقف عن بعض الأسماء التي حققت منجزات معمارية واضحة المعالم وأولها المعمار أحمد مختار إبراهيم الذي تخرّج في مدرسة ليفربول المعمارية بالمملكة المتحدة عام 1935، وشارك في إعداد و تصميم” النادي الأولمبي 1939 قرب ساحة عنتر بالأعظمية.
ولكي لا نغرق في التفاصيل سنكتفي بذكر عشرة أسماء معمارية بضمنها المعمار أحمد مختار إبراهيم المُشار إليه سلفاً. صمم المعمار مدحت علي مظلوم مبنى “سوفير” في راس القرية بشارع الرشيد 1946. فيما صمم محمد مكية كلية التربية في باب المعظم (1966. أما المعمار جعفر علاوي فقد أنجز ” ثانوية الحريري ” بالاعظمية ببغداد (1953) إضافة إلى “عمارة مرجان ” في الباب الشرقي. تجلت لمسات المعمار عبدالله إحسان كامل في خان الباشا الصغير 1956. فيما ركزت المهندسة المعمارية إلين جودت الأيوبي جهودها في مبنى “مشغل الهلال الاحمر” في العلوية (1949). أما المعمار رفعة الجادرجي ( 1926 ) فقد ارتبط اسمه بمشروعي “الجندي المجهول” في ساحة الفردوس و”نصب الحرية” عند “حديقة الأمة” في الباب الشرقي. فيما كُلف المعمار قحطان عوني باعداد تصاميم ومباني مجمع “جامعة المستنصرية” في بغداد .
أما المعمار قحطان المدفعي فقد أنجز مقر لجمعية الفنانيين العراقيين و”مبنى متحف التاريخ الطبيعي” في منطقة الوزيرية و “جامع بنيّة” في منطقة “علاوي الحلة” بكرخ بغداد . وسنكتفي أخيراً بذكر المعمار عدنان زكي أمين الذي يقترن اسمه ببرج متنزه الزوراء السياحي الذي صممه ونفّذه عام 1973.
الأكاديميون العراقيون
قدّم الأكاديميون العراقيون منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الآن إنجازات علمية وأدبية كثيرة يصعب حصرها في هذا المجال الضيق ومع ذلك سنحاول الإحاطة بأبرز الأسماء التي لمعت في عالم الثقافة والفكر والأدب والترجمة والاجتماع والتاريخ والآثار وما إلى ذلك. ومن بين الأكاديميين الرواد يمكننا الإشارة إلى الدكتور جواد علي، وهو مفكر ومؤرخ عراقي قدّم أطروحة نادرة عنوانها “المهدي المنتظر وسفراؤه الأربعة” 1938 وكان علي يحذِّر المؤرخين على الدوام من تدخّل العواطف وتحكّم المذهبية واصطباغ التاريخ بصبغة عقائدية مؤسساً بذلك رؤىً جديدة تتناغم من الأطاريح الحداثية التي تستجيب لاشتراطات روح العصر بما ينطوي عليه من جدّة وتطوِّر وتحديث.
لعب الدكتور وعالم الآثار طه باقر دوراً أساسياً في الثقافة العراقية. وتُعدّ انجازاته وجهاً مهماً من أوجه الحداثة التي فتّحت أذهان الناس في العراق والعالم العربي. يقترن اسم طه باقر بترجمته لـ “ملحمة كلكامش” وتقديمه المعمق لهذه الملحمة التي أثرت مخيال النخبة وعامة الناس على حد سواء.
نافس عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي في شعبيته كبار الشعراء بل أصبح أيقونة من أيقونات الثقافة العراقية. تخلص الباحثة فاطمة المحسن في كتابها الموسوم “تمثلات الحداثة في ثقافة العراق” إلى القول بأنه كان حداثياً وطليعياً وجريئاً جداً في طريقة طرحه لوجهات النظر في الكتابة النقدية. من بين كتبه المهمة “مهزلة العقل البشري”، “خوارق اللاشعور”، ” الأحلام بين العلم والعقيدة”، “منطق ابن خلدون”، ” أسطورة الأدب الرفيع”، “شخصية الفرد العراقي” و “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” (٦ أجزاء).
لم يحظَ الدكتور شاكر مصطفى سليم بما يستحقه من اهتمام فهو من روّاد علم الاجتماع والأنتروبولوجي. أنجز أطروحته المعنونة “الجبايش” والتي طُبعت بجزأين ويعدّها الكثيرون من الأطروحات الرائدة في الجانب الإحصائي- الميداني ولعل معايشته لأهل الجبايش قرابة السنة تذكرنا بما قامت به الليدي دراور التي اتصلت بالمندائيين وعاشت معهم لمدة 14 سنة تقريباً. أفضت كتاباته الانتقادية للشيوعيين وللزعيم عبد الكريم قاسم إلى فصله من الجامعة ثم عرضَ شهاداته للبيع! أنجز في حقل اختصاصه “محاضرات في الإنثروبولوجيا” 1959، وترجم كتاب “مقدمة في الإنثروبولوجيا الاجتماعية ” تأليف لوسي مير1983 . كما وضع” قاموس الإنثروبولوجي-انكليزي – عربي” 1981. وله كتب مؤلفة باللغة الإنكليزية لم نقع عليها.
يُعدّ الدكتور عبد العزيز الدوري شيخ المؤرخين العراقيين وقد أغنى بعطائه الثر التاريخ العربي والإسلامي. تُعتبر أطروحته “تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري” أنموذجاً بارعاً ربط فيه التاريخ بالسوسيولوجيا والاقتصاد.
تعتبر الأستاذة بهيجة أحمد شهاب رائدة في الخدمة الاجتماعية في العراق. أصدرت عدداً من الكتب في هذا المضمار من بينها “خدمة الجماعة” و “خدمة الفرد” وسواها من الكتب التي تُدرّس في أقسام العلوم الاجتماعية في الجامعات العراقية وقد أحدثت حراكاً غير مسبوق في موضوع الخدمة الاجتماعية.
أما الدكتور صلاح خالص فيعتبر علماً من أعلام التنوير في العراق. أنجز إضافة إلى أطروحته “في الأدب الأندلسي ” عدداً من الكتب المهمة أبرزها “إشبيلية في القرن الخامس الهجري” و “المعتمد بن عباد” و “محمد بن عمار الأندلسي”. كما أسهمت زوجته الكريمة الدكتورة سعاد محمد خضر في ترسيخ ملامح الحداثة الثقافية في بغداد من خلال حضورها الثقافي الفاعل في الصحافة والإعلام العراقيين خصوصاً بعد تأسيسها للقسم الفرنسي في إذاعة بغداد. ومن بين كتبها المهمة “الأدب الجزائري المعاصر ” و” الواقعية الاشتراكية كما يراها الواقعيون الاشتراكيون ” و”موجز نظرية الدولة والقانون ” و”القاموس الروسي- العربي ” بالاشتراك مع أحد اللغوين الروس.
تُشكِّل تجربة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة منعطفاً مهماً في الحداثة الثقافية في العراق. أصدر لؤلؤة عدداً كبيراً من الكتب النقدية المهمة مثل “النفخ في الرماد”، “منازل القمر”، “شواطئ الضياع”، “أوراق الخريف” و”دور العرب في تطور الشعر الأوروبي. كما ترجم العديد من الكتب الإنكليزية لكن تظل موسوعة المصطلح النقدي هي العمل الأبرز الذي ترجمه وهي سلسلة تتكون من 44 جزءاً ظهر منها 16 جزءاً عن وزارة الثقافة والإعلام ببغداد.
أما الدكتور إبراهيم الحيدري فهو أحد علماء الاجتماع العراقيين المقيميين بلندن حالياً والذي ظل وفياً لمجتمعه العراقي من خلال أبحاثه ودراساته الرصينة التي تتناول المجتمع العراقي وترصد ظواهره الاجتماعية. أصدر عدداً من الكتب أبرزها نذكر منها “صورة الشرق في عيون الغرب- دراسة للأطماع الأجنبية في العالم العربي”، ” تراجيديا كربلاء- سوسيولوجيا الخطاب الشيعي”، “النظام الأبوي واشكالية الجنس عند العرب”، ” علي الوردي، شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية”و “النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة”. وقد أضفت هذه الكتب القيمة ملمحاً حداثياً في الدراسات والأبحاث الاجتماعية والفكرية التي كتبها في فضاء واسع من الحرية التي لا تقيّد الكاتب بالاشتراطات المسبقة. سنكتفي بهذا القدر من الإشارة إلى الأكاديميين العراقيين ونحن نعرف سلفاً أن هناك أعداد كبيرة منهم تستحق أن نقف عندها طويلاً لكن مساحة المحاضرة ضيقة ولا تتسع لأكثر ممن أشرنا إليهم.
الشعراء العراقيون
تذكر فاطمة المحسن في الكتاب المُشار إليه سلفاً أن حركة الحداثة الشعرية في العراق لم تتفتق نتيجة مواهب أصحابها نازك الملائكة، عبد الوهّاب البياتي، بدر شاكر السياب وبلند الحيدري وإنما نتيجة دراسة البعض منهم للشعر الإنكليزي والأميركي مباشرة وبالذات السياب والملائكة وإطلاع بقية أفراد الحركة على النصوص الشعرية العالمية المترجمة التي وضعتهم في قلب الصورة الحداثية للشعر الأوروبي والأميركي.
ظل الشعر العربي الكلاسيكي مهيمناً على الذاكرة الجمعية العربية لقرون طويلة لكن شعراء الموجة الحداثية الأولى وعلى رأسهم الملائكة والسياب والبياتي وبلند الحيدري وحتى حسين مردان والبريكان إضافة إلى شعراء آخرين شكلوا ما يمكن وصفه بالقطيعة المعرفية وخرجوا على الأشكال السائدة والمعروفة حيث تركوا النظام العروضي جانباً ليؤسسوا أشكالاً شعرية غير مطروقة من قبل لعل أبرزها قصيدة التفعيلة، والشعر الحر، والشعر المرسل والنثر المركّز. وقد جاءت هذه النقلة الحداثية متزامنة مع الحداثة المعمارية والفنية والأكاديمية وما إلى ذلك. ويمكن العودة إلى البيان الشعري الأول الذي أصدرته نازك الملائكة ونشرته في مقدمة ديوانها “شظايا ورماد” عام 1949 وكان أشبه بالإعلان عن مجتمع مديني تنافس فيه المرأة ثقافة الرجل، بل تتفوق عليها في بعض الأحيان كما تذهب الباحثة فاطمة المحسن.
وعلى الرغم من الهزّة الثقافية التي أحدثتها حركة الحداثة الأولى إلا أن جيل الستينات الذي يمثلة فاضل العزاوي، سركون بولص، جان دمّو، صلاح فائق، أنور الغساني، مؤيد الراوي الأب يوسف سعيد، سامي مهدي، فوزي كريم، حميد سعيد، علي جعفر العلاق، ياسين طه حافظ، موفق خضر، عبد الكريم كاصد، شوقي كريم، عبد الرحمن طهمازي، صادق الصائغ، نبيل ياسين وآمال الزهاوي وغيرهم قد اتهموا جيل الحداثة الأول بالتخلف والجمود والسقوط في خانق الميوعة الرومانسية حيث تبنوا أنماطاً تجريبية تتمثل بالكتابة الأوتوماتيكية والسوريالية والدادائية والرمزية والمستقبلية وبكل ما جادت به القريحة الإبداعية الغربية.
ويكفي أن نشير هنا إلى البيان الشعري الذي كتبه فاضل العزاوي عام 1969، ووقعه الشعراء سامي مهدي، فوزي كريم، خالد علي مصطفى حيث قدموا أفكارهم وتصوراتهم عن الشعر والإنسان والعالم. يعود الفضل إلى أربعة شعراء ستينيين أسهموا بترسيخ مصطلح الحداثة فيما بعد وهم فاضل العزاوي وسامي مهدي وعبد القادر الجنابي وفوزي كريم آخذين بنظر الاعتبار بأن فوزي كريم قد اتهمهم بالتطاول على الحداثة الغربية وما بعد الحداثة بل ذهب أبعد من ذلك حينما اتهمهم بالسرقة من بستانها. لم يكتب جماعة كركوك فقط القصيدة الحديثة وإنما كتبها شعراء عراقيون أمثال فاضل عباس هادي وعبد القادر الجنابي وجليل حيدر وعبد الرحمن طهمازي الأمر الذي يدحض فكرة اقتران الحداثة بجماعة كركوك فقط دون غيرهم من شعراء العراق.
لابد من الإشارة إلى بضعة شعراء ينتمون إلى المسافة الوسطى بين الخمسينيين والستينيين وهم سعدي يوسف وصلاح نيازي ويوسف الصائغ وحسب الشيخ جعفر لكنهم لم يدخلوا في مماحكات مع الستينيين وقد أثرى سعدي يوسف القصيدة الخمسينية حينما جعلها أكثر كثافة وتركيزاً وسوف يمنح الشعراء الثلاثة الآخرون نكهة أخرى للقصيدة العراقية التي تلاقحت مع شقيقتها الأوروبية وبالذات قصيدة صلاح نيازي وصادق الصائغ وعبد الكريم كاصد وفوزي كريم.
لا تختلف تجارب الروائيين العراقيين في التأسيس للحداثة الأدبية أو المساهمة فيها. ومن الطبيعي جداً أن نتلمس أرهاصاتها الأولى لدى جيل الرواد الذي تمثل بمحمود أحمد السيد الذي أصدر باكورته الروائية (في سبيل الزواج) 1921 ثم أردفها بـ (مصير الضعفاء) قبل أن ينجز روايته الأهم(جلال خالد) عام 1928. وفي السياق ذاته يمكن الإشارة إلى ذي النون أيوب وبداياته في روايتي “الدكتور إبراهيم”، “الرسائل المنسية”، قبل أن يكتب رائعته الأدبية “اليد والأرض والماء” التي عدّها البعض أفضل رواية عربية في حينه تلاها برواية “على الدنيا السلام” بعد أن كتب “أبو هريرة وكوجكا” الذي يعتبر نصاً سيرياً بنسق روائي. لا يمكن التغاضي عن كاتب بقامة عبد الحق فاضل الذي أنجز رواية “مجنونان” التي عُدّت في حينه عملاً روائياً متقناً على الصعيد الفني إضافة إلى ما حققه من نجاحات على صعيد القصة القصيرة والترجمة. لم تقتصر المرحلة التأسيسية للرواية على محمود أحمد السيد وذي النون أيوب وعبد الحق فاضل وإنما تجاوزتهم مهدي عيسى الصقر الذي أصدر سلسلة من الروايات المهمة لعل أبرزها “الشاهدة والزنجي”، “صراخ النوارس”، “رياح شرقية غربية” إضافة “وجع الكتابة” التي اندرجت ضمن خانة المذكرات واليوميات. وغائب طعمة فرمان الذي حفر اسمه في جدارية المشهد الروائي العراقي من خلال رواياته “النخلة والجيران”، “خمسة أصوات”، “المخاض” وغيرها من رواياته المعروفة.
أما عبد الملك نوري الذي تألق في “رائحة الشتاء” و “رغوة السحاب” إضافة إلى سيرته الذاتية المعنونة “سيرة بحجم الكف” وكتاب نقدي يحمل عنوان “ثريا النص. وقد لعب نوري إضافة إلى مجايليه دوراً مهماً في ترسيخ بعض ممهدات الحداثة في الأدب العراقي التي رشَح الجزء الأكبر منها عبر منجزاتهم الأدبية ومترجماتهم عن اللغتين الإنكليزية والفرنسية وبعض اللغات الشرقية مثل التركية والفارسية.
وعلى الرغم من أهمية المنجز الأدبي لفؤاد التكرلي الذي أصدر أربع روايات “الرجع البعيد”،”خاتم الرمل”، “المسرات والأوجاع” و “اللاسؤال واللاجواب” وبعض مجموعاته القصصية مثل “الوجه الآخر” و “موعد النار” التي انطوت إحدى قصصها على محاولة ميتا-سردية إلا أنه ظل مُستبعداً أو مقصياً عن الحداثة الروائية لكن هذه الإزاحة المتعسفة لا تلغي ريادته الفنية ولا تقلل من أهمية نزعته الحداثية على الإطلاق.
حمل جيل الستينات راية الحداثة الروائية والقصصية لعل أبرزهم فاضل العزاوي الذي كتب “القلعة الخامسة”، “آخر الملائكة” و “الأسلاف” وزهدي الداوودي في “أطول عام”، “زمن الهروب” و “وداعا نينوى” وعالية ممدوح الجريئة التي كتبت “الولع”، “الغلامة”، “حبات النفتالين”، “المحبوبات” و “التشهي”، ولطفية الدليمي التي كتبت “عالم النساء الوحيدات” و “منْ يرث الفردوس؟”، وبرهان الخطيب الذي أنجز “ضباب في الظهيرة” و “شقة في شارع أبي نواس”، وعبد الرحمن مجيد الربيعي الذي أبدع في “الوشم” و “الأنهار” و “القمر والأسوار”، وعبد الستار ناصر في مجمل رواياته وبقية الروائيين الستينيين الذين لا يسع المجال لذكرهم جميعاً.
ما نريد الوصول إليه من خلال جيل الستينات هو الإشارة إلى النتاجات الروائية التي تنطوي على أسلوب ميتا سردي ينتهك التقاليد السردية ويحطم الإيهام السردي أو يخترقها في الأقل مثل رواية “الراووق” لعبد الخالق الركابي أو “الحلم العظيم” لأحمد خلف أو “قشور الباذنجان” لعبد الستار ناصر أو “الأسلاف” لفاضل العزاوي أو “نساء زحل” للطفية الدليمي. وتعزيزاً لهذا المحاولات يمكن الإشارة إلى رواية “الحفيدة الأميركية” لأنعام كجه جي، رواية “خضر قد والعصر الزيتوني” لنصيف فلك و “كباريهت” لحازم كمال الدين. التي تتجسد فيها التقنية الأسلوبية القائمة على فكرة التوازي النصوصي التي يكسر فيها الروائي الإيهام السردي والخطية التتابعية لتنامي الحكي أو الأحداث في البنية السردية. يمكن الإشارة إلى روايات ميتاسردية أخرى مثل “أوتار القصب” لمحسن الموسوي، “همس مبهم” لفؤاد التكرلي، “بابا سارتر” لعلي بدر “كراسة كانون” لمحمد خضير. ومن الأدب العالمي يمكن الإشارة إلى “امرأة الضابط الفرنسي” لجون فاولر. أما اكتشاف مصطلح الميتاسرد فيعود إلى الروائي والناقد الأميركي وليم غاس عام 1970. لقد أرسى هؤلاء وغيرهم من الأسماء التي تعذر الإشارة إليها ملامح الحداثة الروائية والقصصية التي نقلت الإبداع العراقي إلى فضاء مختلف ومغاير لكل ما هو سائد ومعروف.
الفنانون التشكيليون
أصدر الفنانون التشكيليون بيانهم الأول عام 1969 وأسموه “نحو الرؤية الجديدة” ووقعه عدد من الفنانين المعروفين أمثال هاشم سمرجي، محمد مهر الدين، رافع الناصري، ضياء العزاوي، صالح الجميعي، إسماعيل فتاح الترك وغيرهم. وقالوا في البيان “أن علينا أن نمزّق التراث لنوجده من جديد ، وعلينا أن نتحداه لكي نتجاوزه”.
ظل الفنان العراقي يدور في فلك الواقعية لسنوات طويلة خلال مرحلة الريادة الفنية لكنهم سرعان ما خرجوا من ذلك القمقم وأحدثوا قطيعة مع الماضي الفني الذي بدأ ينتصر إلى المدارس والتيارات الفنية الحديثة. وقد لعب المركز الثقافي البريطاني ببغداد دوراً مهماً في الترويج للحداثة الفنية حيث أقام عدة معارض لجمعية أصدقاء الفن وهم عطا صبري، حافظ الدروبي، أكرم شكري وجواد سليم. كما لعب وصول الفنانين البولونيين الأربعة ماوتشيك، جابسكي، زيكمونت وياريما وبعض الفنانين البريطانيين أمثال كنث وود والمترجم ديزموند ستيوارت الذي ترجم عدداً من القصائد للسياب والبياتي والحيدري ومنقِّب الآثار ماكس مالون وزوجته الروائية الشهيرة أغاثا كريستي لعب هؤلاء جميعاً دوراً مهماً في إضفاء صفة الحداثة الأدبية والفنية والثقافية في تلك الحقبة الزمنية الثرية.
حينما عاد الفنانون التشكيليون الذي درسوا في المعاهد والجامعات الفنية الأوروبية جلبوا معهم رؤىً وأفكار لم تكن معروفة ضمن حدود الوسط الفني العراقي فشاعت التيارات الحديثة كالسوريالية والدادائية والتعبيرية والمستقبلية ووجدت طريقها إلى العمل الفني الذي بدأ يؤسس هو الآخر لحداثة فنية سوف تتواصل لعدة عقود مؤسسة لملامح الحداثة في الرسم والنحت والسيراميك والأعمال التركيبية.
وفي السياق ذاته لابد من الإشارة إلى أهمية الموسيقى والغناء في إضفاء صفة الحداثة على الحياة البغدادية ولعل أبرز الموسيقيين هم جميل بشير، منير بشير، عباس جميل، أحمد الخليل، روحي الخماش، صلاح القاضي، سلمان شكر، صلاح وجدي، حسين قدوري، سالم حسين، غانم حداد، محمد نوشي، وديع خوندة، ناظم نعيم، فاروق هلال، شعوبي إبراهيم، حسن الشكرجي وعشرات الأسماء الأخرى التي لا يسع المجال لذكرها جميعاً.
أما في الغناء فيمكن أن نشير إلى المطربين ناظم الغزالي، رضا علي، جميل قشطة، عزيز علي، علي الدبو، فاضل رشيد، منيرة الهوزوز، سلطانة يوسف، صديقة الملاية، سليمة مراد الباشا، زكية جورج، عفيفة إسكندر، لميعة توفيق، أحلام وهبي، مائدة نزهت، زهور حسين، عزيمة توفيق، صبيحة إبراهيم، نرجس شوقي وعشرات الأسماء الأخرى التي يتعذر ذكرها جميعاً. لقد وجد هؤلاء الفنانون أنفسهم في خضم الحداثة التي بدأت تفرض نفسها شيئاً فشيئاً على المجتمع البغدادي الذي عرف طريقه إلى صالات المسارح الراقية بعد أن كانت الملاهي والبارات الليلية هي حاضنتها المكانية الأولى التي لم تجد ضيراً في تقديم الغناء بوصفه مادة ترفيهية تخفف عن الضغوط اليومية للمواطن العراقي.
لم نتوقف عند الحداثة السينمائية على الرغم من أن أول عرض سينمائي في العراق يعود إلى عام 1909 وتحديداً في يوم 26 تموز من تلك السنة حيث عُرض أول فيلم أجنبي في دار الشفاء بجانب الكرخ قبل أن تبرز صالات السينمات إلى الوجود في عشرينات القرن القرن حيث أنشئت لاحقاً سينمات بلوكي، سنترال، الوطني، الزوراء، الرشيد، الهلال، روكسي، غازي، الفردوس، الشرق،هوليوود، الخيام، الأرضروملي، النجوم، سمير أميس، أطلس وبابل وغيرها من صالات السينما المعروفة في بغداد التي بلغت نحو ثمانين صالة سينمائية رفدت المجتمع العراقي بآلاف الأفلام على مدى سبعة عقود أو يزيد.
يمكن القول بأن العروض السينمائية قد أصبحت في حينه ملمحاً جديداً من ملامح الحداثة شأنها شأن المسارح التي استدرجت جمهوراً واسعاً من المثقفين العراقيين وعامة الناس على حد سواء.
لابد الإشارة إلى ظاهرة حسون الأمريكي (حسون كاظم عيسى العبيدي) الذي كان يقلد ما يرتديه الممثلون الأميركيون من لباس غربي كالقبعة، والقمصان الملونة، وبناطيل الجينز القصيرة، والجوارب الملونة، والأحذية المدببة. وكان يعلق على رقبته كاميرا، ويقود كلباً في نزهاته اليومية التي يجتاز فيها شارع الرشيد والسعدون ويلتقي بالناس الذين يسخرون منه لكنه كان يستقبل سخريتهم اللاذعة بابتسامة عريضة ويتحمل تجاوزاتهم المتواصلة بسبب شغفه بالأزياء الأميركية وطرز عيش المواطن الأميركي كما تُصوِّرها السينما الهوليوودية. لقد استضافه التلفزيون العراقي في نهاية الستينات وحاوره بشأن هذه الظاهرة الغريبة، كما أنجز عنه تمثيلة كان هو بطلها الرئيس بلا منازع.
نخلص إلى القول بأن الحداثة ترتبط بكل المحاور آنفة الذكر لكنها تتجلى بقوة في الأدب والفن التشكيلي والعمارة والموسيقى والغناء والأبحاث والدراسات النقدية الرصينة. كما أنها تبسط أذرعها لتحتوي كل مظاهر الحياة التي يكون فيها الإنسان فاعلاً ومتفاعلاً في الوقت نفسه.