رواية ما تبقى لكم أنموذجًا
خيري حمدان
ليس الجسد وحده الذي يهاجر، بل الوعي والإرث الحضاري. الملايين من مواطني المشرق تركوا كلّ ما يملكون وهاجروا عبر البحار والبرّ والجوّ إلى القارات الأخرى بعيدًا عن تبعات الحروب الأهلية المقيتة التي دمّرت معالم إقليم الشرق الأوسط. الكثير من المثقفين والأدباء أجبروا كذلك على الرحيل ومع مرور الوقت تأثّروا بالحضارة الغربية. بداية شعروا بالفارق الكبير في الممارسات الديمقراطية والشفافية في التعامل. ربّما وبحكم المعاناة تطرّقت أعمالهم في البداية إلى الطابع المأساوي الذي عاشوه ومشاعر الاغتراب التي لم تتركهم وشأنهم، لكن الثقافة الغربية المتحرّرة صبغت مدوّناتهم إلى حدّ كبير، وبات من الملاحظ بعض الاختلاف في نتاجهم الجديد مقارنة بأعمالهم السابقة، فقد تمكّنوا من تجاوز حاجز الخوف وربّما الرقيب الداخلي. أصبح من الممكن أن يطرقوا دروبًا أخرى من مساقات الأدب دون الالتزام بالقيود التي فرضت عليهم خلال مراحل حيواتهم السابقة في المشرق.
صحيح أنّ الغرب بصورة عامّة رفع من معدّلات مبيعات مصانع الأسلحة لديه في مناطق وأقاليم المشرق الساخنة، لكنّه استقبل الفارّين من هناك وعمل بجدّ على إيوائهم والتخفيف من معاناتهم النفسية. فتح المجال للإبداع وصناعة السينما والمسرح بنكهة شرقية، هذا ما نلاحظه في ألمانيا والسويد وفرنسا وبعض دول أوروبا الشرقية. كما استفاد الغرب من قدرات اللاجئين لتنشيط مجال الترجمة للغة العربية. أريد أن أشير كذلك إلى أنّ الترجمة من اللغة التركية إلى اللغة العربية كانت محدودة للغاية حتى بداية القرن الواحد والعشرين، على الرغم من قرب المسافة بين تركيا والعالم العربي، لكنّها ارتقت بصورة ملحوظة بعد ذلك، وهذا يعود لجهود اللاجئين الذي وجدوا في تركيا المأوى والأمان، والأمر لا يختلف عنه في الدول الغربية فقد نَشُطَ مجالُ الترجمة من معظم اللغات الأجنبية للعربية.
إنّ التلاقح الثقافي ما بين الغرب والشرق ضروريّ للغاية ويعمل على إلغاء الحدود وتقريب المسافات ما بين الحضارات المختلفة وإبعاد شبح الحروب المدمّرة. الثقافة هي اللغة المشتركة على الصعيد العالمي، ولا ينقلها سوى أصحاب الفكر المتنوّرين. هذه أهمّ إنجازات اللاجئين الذي توطّنوا في الغرب بعيدًا عن المشرق المشبع بالقلق والتوتّر وسفك الدماء حتى وإن كان قرارهم بالاستقرار في الغرب مؤقّت ورهن تغيّر الأوضاع في المشرق إلى الأفضل، ليتمكّنوا من العودة والمساعدة في بناء أوطانهم بصورة أكثر ديمقراطية متوخّين الشفافية والتسامح والارتقاء بالعامل الإنسانيّ باعتباره المشترك ما بين الأقليات والإثنيات المختلفة. ولنا في المنتج الكبير الذي تركه لنا جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وغسّان كنفاني روّاد الفكر المعاصر اللذين تأثّرا بالأدب الأميركي والغربي إبّان القرن العشرين مثالا يحتذى.
الاغتراب في رواية ما تبقى لكم لغسان كنفاني
تناول العديد من النقّاد تأثّر غسان كنفاني برواية الأديب الأميركي وليم فوكنر “الصخب والعنف” الصادرة عام 1829. تقنية “تيار الوعي” المستخدمة في نسج هذه الرواية أتاحت المجال لكنفاني لطرح أفكاره من خلال أبطال روايته الشهيرة “ما تبقى لكم”. تعدّ التقنية المذكورة أهمّ إنجازات الآداب الغربية التي تركت بصمة عميقة في معظم الأعمال التي نشرت خلال القرن العشرين.
رواية “ما تبقى لكم” تركت الكثير من الجدل في الأوساط الأدبية العربية ما بين مؤيد ومعارض بسبب النهج التجريبي الذي اعتمده كنفاني في هذا العمل خلافا لأعماله التقليدية السابقة الموجهة لمخاطبة وعي الفئات الشعبية الواسعة، لكنّه أبقى على جهوده لتطوير أساليبه الإبداعية، وقد طرق العديد من المجالات الأدبية كالقصة القصيرة والرواية والمسرح والمقال والدراسات الأكاديمية والسياسية، لذا فهو يعتبر مدرسة بحدّ ذاته على الرغم من أنّ الموت قد تمكّن منه وهو في أوج عطائه، حيث زرع الموساد عبوة متفجرة في سيارته في الثامن من شهر يوليو 1972 أودت بحياته وحياة ابنة أخته لميس.
الرواية تتناول تطور حياة ثلاثة شخصيات رئيسية، حامد ومريم – أخ وأخت وزكريا عشيق الأخت ورمز الخيانة والتسلّط الرجولي إضافة لساعة الحائط التي تراوح مكانها والصحراء الرحيمة في هذه الرواية التي تمثّل المطهر، على العكس من رواية “رجال في الشمس” حيث الشمس هي الجحيم بعينه والقبر الجماعي للاجئين المتوجهين إلى الكويت، الذين فضّلوا الهروب بدلا من التفكير والتخطيط للعودة إلى الوطن المحتل. كافّة أبطال رواية “ما تبقى لكم” يعانون من غربة واغتراب ومحاولة النجاة والقفز فوق حواجز القنوط والاستسلام الذاتي للزمن المتقوقع الذي لا يراوح الوهلة. وحده حامد يتمرّد على كلّ شيء ويقرّر الانطلاق إلى المطهر “الصحراء” لينفذ منها إلى حضن الأم الحنون.
أين المفر؟
غالبًا ما يطرح كنفاني هذا السؤال الوجودي في أعماله الأدبية بصورة غير مباشرة وغير مباشرة. اللجوء هو مخرج تقليدي للعامة وحين تنقطع بهم الطرق تراهم يتجاهلون مصدر نكبتهم ومصيبتهم ونزوحهم عن الوطن ويتمسّكون نيابة عن ذلك بحبال الهواء الواهية التي لا تكفّ عنهم تبعات الأزمات المصيرية التي يمرّون بها تباعًا.
لذا نجد زكريا قد استسلم بسهولة لدوافع الخوف واعترف عن المناضل الذي قتل أحد جنود الاحتلال ليعدم على الفور أمام أعين رجال القرية وحامد من بينهم. ثمّ تقع مريم في أسرِ الغواية وثورة الأنوثة والرغبة الغريزية وتسلّم نفسها لزكريا الخائن، لتبدأ بذلك لحظة انكسار حامد الذي فشل بصون عرضه.
كنفاني يضعنا في هذا العمل على المحكّ العاطفي والوجداني والفكري، فحين تختفي الخيارات يقع المحظور ولا خيار أمام حامد العاجز عن التعامل مع الأزمة الاجتماعية المترتبة على الهجرة الذاتية في الوطن، وضمان حياة زوجية كريمة لأخته سوى طرق أبواب الصحراء رمزًا لتغيير الأمر الواقع. المعطيات التي تطرّق إليها كنفاني وجودية وفلسفية فالعلاقة ما بين زكريا ومريم تبدو غير تقليدية والمرأة هنا هي العنصر الأقوى، هي القادرة على تحديد مصير هذه العلاقة على العكس من النساء الخجولات اللواتي يضحين بكلّ شيء من أجل راحة الرجال والمقاتلين في روايات كنفاني الأخرى، وعندما يطالبها زكريا بالإجهاض والتخلّي عن الجنين والتفرّغ للمتعة، تستيقظ الأمومة في أعماقها ولا تتوانى لحظة واحدة عن قتل زوجها. كأنّها بهذا تطعن الفحولة المتحكّمة بمصائر النساء والصغار في هذا الوطن.
الرواية قصيرة للغاية مقارنة بحجم الأعمال الروائية عامّة، لكن هذا أسلوب كنفاني الذي يتمكّن من اختزال أفكاره بصفحات معدودة لينتقل بعد ذلك لمشروع أدبي آخر، هو المسكون بمبادرات إبداعية انطفأت بموته المفاجئ قبل نصف قرن. الأحداث في “ما تبقى لكم” لا تتجاوز 24 ساعة أحداث مكثّفة يحاول الكاتب فيها أن يقول كلّ ما لديه بشأن القضايا الفكرية الجدلية المطروحة. ربّما لم ينجح في هذا المسعى تمامًا لأنّ هذا النمط من العودة إلى الخلف في تسلسل الأحداث وربطها بالخطوات المتوقعة واستخدام عاملي الزمن والمكان “ساعة الحائط والصحراء” هو ابتكار غربي يصعب تطبيقه في الواقع العربي والفلسطيني خاصة، فالإسقاطات التي لجأ إليها كنفاني متنوّعة ومتباينة وتحتاج لحيّز أكبر من الوقت والمكان لنقلها بصورة أفضل للقارئ والمفكّر العربي، وهذا ما تطرّق إليه الناقد والمفكر الفلسطيني فيصل درّاج معتبرًا تقنية “تيار الوعي” التي اعتمدها كنفاني في معظم أعماله وبخاصة “ما تبقى لكم” غربية ولا تتوافق مع الحالة الفلسطينية.
لا شكّ أنّ كنفاني قد أوجد حالة فكرية وثقافية غير تقليدية وقفز فوق الكثير من المسلّمات في الأدب العربي المعاصر، ولم يرضخ للظروف الراهنة وطرق أبواب النهج التجريبي في عالم الرواية والمسرح أيضًا، ليضع بذلك أسسًا متينة أتاحت المجال للأجيال الجديدة للخروج عن المألوف والكتابة في مختلف الأصناف الأدبية التجريبية، ساهم في ذلك موجات الهجرة المتواصلة والتلاقح الفكري خاصّة ما بعد مرحلة الربيع العربي التي استمرت طوال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.